السؤال هل ادم مبشر بالجنة الجواب الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي أسكنها آدم ، هل هي في السماء أو في الأرض ؟ هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه . والجمهور على أنها هي التي في السماء ، وهي جنة المأوى ، لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [ البقرة : 175 ] . والألف واللام ليست للعموم ، ولا لمعهود لفظي ، وإنما تعود على معهود ذهني ، وهو المستقر شرعا من جنة المأوى ، وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام : علام أخرجتنا ونفسك من الجنة . الحديث . كما سيأتي الكلام عليه . وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشجعي ، واسمه سعد بن طارق ، عن أبي حازم سلمة بن دينار ، عن أبي هريرة ، وأبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ! . وذكر الحديث بطوله ، وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى ، وليست تخلو عن نظر . [ ص: 176 ] وقال آخرون بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد ; لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ، ولأنه نام فيها وأخرج منها ، ودخل عليه إبليس فيها ، وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى . وهذا القول محكي ، عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، ووهب بن منبه ، وسفيان بن عيينة . واختاره ابن قتيبة في المعارف ، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره ، وأفرد له مصنفا على حدة ، وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله . ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الري في تفسيره عن أبي القاسم البلخي ، وأبي مسلم الأصبهاني . ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة ، والقدرية . وهذا القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب . وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في " الملل والنحل " وأبو محمد بن عطية في تفسيره ، وأبو عيسى الرماني في تفسيره . وحكى عن الجمهور الأول ، وأبو القاسم الراغب ، والقاضي الماوردي في تفسيره فقال : واختلف في الجنة التي أسكناها يعني آدم وحواء على قولين ; أحدهما : أنها جنة الخلد . الثاني : جنة أعدها الله لهما ، وجعلها دار ابتلاء ، وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء . ومن قال : بهذا اختلفوا على قولين ; أحدهما : أنها في السماء ، لأنه أهبطهما منها . وهذا قول الحسن ، والثاني : [ ص: 177 ] أنها في الأرض ، لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار . وهكذا قول ابن جبير ، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم ، والله أعلم بالصواب من ذلك ، هذا كلامه . فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة ، وأشعر كلامه أنه متوقف في المسألة ، ولهذا حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال ، هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي ورابعها : الوقف . ورجح القول الأول . والله أعلم . وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي . وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا : لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية ، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها ، وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته ، وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ، ولهذا قال : اخرج منها مذءوما مدحورا [ الأعراف : 18 ] . وقال : اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ الأعراف : 13 ] . وقال : اخرج منها فإنك رجيم [ الحجر : 34 ] . والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة ، وأيا ما كان ، فمعلوم أنه ليس له الكون بعد هذا في المكان الذي طرد عنه ، وأبعد منه لا على سبيل الاستقرار ، ولا على سبيل المرور والاجتياز . قالوا : ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس [ ص: 178 ] لآدم وخاطبه بقوله له : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ طه : 120 ] . وبقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ الأعراف : 20 21 ] . الآية ، وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما ، وقد أجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها ، أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة ، أو من تحت السماء . وفي الثلاثة نظر ، والله أعلم . ومما احتج به أصحاب هذه المقالة ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزيادات عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن البصري ، عن عتي هو ابن ضمرة السعدي ، عن أبي بن كعب قال : إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة ، فانطلق بنوه ليطلبوه له ، فلقيتهم الملائكة فقالوا : أين تريدون يا بني آدم ؟ فقالوا : إن أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة . فقالوا لهم : ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه ، وغسلوه ، وحنطوه ، وكفنوه ، وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ، ودفنوه . وقالوا : هذه سنتكم في موتاكم . وسيأتي الحديث بسنده ، وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام . قالوا : فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك ، فدل على أنها في الأرض لا في السماء ، والله تعالى أعلم . قالوا : والاحتجاج بأن الألف واللام في قوله : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . [ ص: 179 ] لم يتقدم عهد يعود عليه ، فهو المعهود الذهني مسلم ، ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام فإن آدم خلق من الأرض ، ولم ينقل أنه رفع إلى السماء . وخلق ليكون في الأرض ، وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال : إني جاعل في الأرض خليفة . قالوا : وهذا كقوله تعالى : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة [ القلم : 17 ] . فالألف واللام ليس للعموم ، ولم يتقدم معهود لفظي ، وإنما هي للمعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان . قالوا : وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء . قال الله تعالى : قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك [ هود : 48 ] . الآية . وإنما كان في السفينة حين استقر على الجودي ونضب الماء عن وجه الأرض ، أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا عليه وعليهم . وقال الله تعالى : اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم [ البقرة : 61 ] . الآية . وقال تعالى : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ البقرة : 74 ] . الآية . وفي الأحاديث واللغة من هذا كثير . قالوا : ولا مانع ، بل هو الواقع ، أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض ذات أشجار ، وثمار ، وظلال ، ونعيم ، ونضرة ، وسرور ، كما قال تعالى : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ طه : 118 ] . أي لا يذل باطنك بالجوع ، ولا ظاهرك بالعري : وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ طه : 119 ] . أي لا يمس باطنك حر الظمأ ، ولا ظاهرك حر الشمس ، ولهذا قرن بين هذا وهذا ، وبين هذا وهذا لما بينهما من المقابلة . فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهي عنها أهبط [ ص: 180 ] إلى أرض الشقاء ، والتعب ، والنصب ، والكدر ، والسعي ، والنكد ، والابتلاء ، والاختبار ، والامتحان ، واختلاف السكان ; دينا ، وأخلاقا ، وأعمالا ، وقصودا ، وإرادات ، وأقوالا ، وأفعالا ، كما قال تعالى : ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ البقرة : 36 ] . ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء ، كما قال تعالى : وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا [ الإسراء : 204 ] . ومعلوم أنهم كانوا فيها لم يكونوا في السماء . قالوا : وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ، ولا تلازم بينهما ، فكل من حكي عنه هذا القول من السلف ، وأكثر الخلف ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم ، كما دلت عليه الآيات ، والأحاديث الصحاح ، كما سيأتي إيرادها في موضعها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب