1. يتسارع وقع خطى الأيام، وتتسابق لحظات المرء، نحو ساعات يشبه بعضها بعضا،​


    وتشتد غفلة الإنسان مع متطلبات شئونه الحياتية، فلا يفيق إلا بعد ما طويت مراحل من عمره مهمة،​


    فيندم عندئذ ندما كبيرا، ويتمنى أن لو أيقظه موقظ أو صرخ في وجهه ناصح.​


    وهذا في الواقع يحصل لكل أحد، فلا أحد ينجو من الغفلة، ولا أحد يهرب من التأثر بدوامة الحياة،​


    ولكن ثمة لحظات صدق تائبة، ونوبات خشوع صادقة تتلمس شغاف القلب المنيب إلى ربه،​


    يحاسب فيها نفسه، ويجدد فيها العهد، وعندها تثور ثائرة مشاعره الصادقة التائبة، وتغرورق عيناه بدموع إيمان،​


    فيكون بكاؤه عندئذ أشبه ما يكون بغيث السماء الذي يرسله الله سبحانه على جدباء الأرض​


    فيحييها وينبت فيها الحياة من جديد.​






    القرآن والسنة​


    قال الله تعالى:​


    {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}...​


    (الإسراء :109).​




    وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:​


    (ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى)​


    (أخرجه الترمذي).​




    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:​


    (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله و جهنم)​


    (أخرجه الترمذي).​




    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:​


    (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله...)،​


    وذكر منهم ورجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه: (متفق عليه).​






    سمت الصالحين​


    عن العرباض بن سارية قال:​


    (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة سالت منها العيون ووجلت منها القلوب...)​


    (أخرجه أحمد والترمذي).​


    وكان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى فيقال له ما يبكيك؟​


    فيقول: لا أدري ماذا صعد اليوم من عملي!.​


    وقال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.​


    وقال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.​


    وقال قتادة: كان العلاء بن زياد إذا أراد أن يقرأ القرآن ليعظ الناس بكى وإذا أوصى أجهش بالبكاء.​


    وقال الذهبي: كان ابن المنكدر إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعا مسته الدموع.​




    وعن يحيى بن بكير، قال: سألت الحسن بن صالح أن يصف لنا غسل الميت فما قدرت عليه من البكاء.​


    وعن محمد بن المبارك، قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.​


    وقال معاوية بن قرة: من يدلني على رجل بكاء بالليل بسام بالنهار؟​


    وقال بكر بن عبد الله المزني: من مثلك يا ابن آدم خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت وتناجي ربك،​


    ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان، إنما طيب المؤمن الماء المالح هذه الدموع فأين من يتطيبون بها؟.​






    ات البكاء​


    1- الخلوة الصالحة في أوقات إجابة الدعاء: فالخلوة الصالحة هي خليلة الصالحين والعبّاد وكل قلب يفتقر إلى خلوة،​


    وأنا هنا أنعتها بالصالحة وهي الخلوة التي يقصدها المرء بنية التعبد لله والخلوص له سبحانه وتعالى​


    قال الله سبحانه: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}..​


    وهذه الخلوة الصالحة يكون فيها التدبر في شأن الإنسان وحاله مع ربه،​


    ويكون فيها محاسبة المرء لنفسه، ويكون فيها استدعاء تاريخ حياة كل واحد مع نفسه وفقط،​


    وتكون فيها المصارحة والمكاشفة بين كل امرئ وقلبه، فيعرف مقامه وتقصيره وكم هو مذنب مقصر خطاء..​


    وعندها يسارع إلى الاستغفار والبكاء من خشيته سبحانه.​






    2- الإنصات والتدبر للتذكرة والموعظة: فكم من كلمة طيبة كانت سببا في تغيير حياة إنسان من الغفلة إلى الاستقامة،​


    وقد حذر العلماء من إغفال التذكرة وعدم التأثر بها، فقال إبراهيم بن أدهم:​


    علامة سواد القلوب ثلاث.. ذكر منها: ألا يجد المرء في التذكرة مألما!..​


    وكان الحسن إذا سمع القرآن قال: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل وإلا نصب وإلا ذاب وإلا تعب،​


    وقال ذر لأبيه عمر بن ذر الهمداني: ما بال المتكلمين يتكلمون​


    فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت يا أبت سمعت البكاء من ههنا وههنا؟​


    فقال: يا ولدي ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.​






    3- محاسبة الجوارح ومخاطبتها: فعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى​


    وقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله!،​


    فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه،​


    وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله تعالى فيه،​


    والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذي غاب عنه..​


    فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟​


    وكم من طاعة قصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟​


    وكم من استغفار غفلت عنه؟..​


    ويذكر قول الله تعالى:​


    {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...}​


    الآيات "فصلت".​






    البكاء والإخلاص​


    تساؤل يثار كثيرا حول الموقف من البكاء أمام الناس وفي حضرتهم​


    رغم ما يمكن أن يكتنف هذا من التماس ببعض شبهات المراءاة للناس وتصوير النفس بالخشوع والتقوى،​


    فكثير من الناس يمتنعون عن ذلك البكاء ولا يبدونه مهما كانت الأحوال مخافة الاتهام بالرياء​


    أو مخافة مداخلة النفس العجب، وعلى جانب آخر يرى البعض أن البكاء في المجالس​


    وفى المواعظ شيء طبيعي لأصحاب القلوب الرقيقة لا يمكن إنكاره أو اتهام صاحبه بسوء نية،​


    فما هو الموقف الصائب إذن؟.​


    الناظر إلى أحوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تابعهم ونهج نهجهم من علماء الأمة​


    ليرى بوضوح أن البكاء كان سمة مميزة لهم -كما سبق أن بينا فيما سبق من آثار- بل أكثر من ذلك..​


    إن بعضهم كان ربما يظل طوال درس العلم الذي يلقيه يظل يبكي حتى ينتهي،​


    فيروي الإمام الذهبي عن أبي هارون قال: كان عون يحدثنا ولحيته ترتش بالدموع،​


    وقال جعفر بن سليمان: كنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أنه وجه ثكلى.. إلى غير ذلك من الآثار المتكاثرة.​


    ولكن هناك أيضا من الآثار ما حض على إخفاء ذلك البكاء وجعله في الخلوة ومنفردا فقط:​


    فعن محمد بن زيد قال: (رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده​


    فقال له: أنت أنت لو كان هذا في بيتك)..​




    وقال سفيان بن عيينة: (اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك)،​


    بل نقل الذهبي عن عمران بن خالد قال سمعت محمد بن واسع يقول:​


    إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.. إلى غير ذلك من الآثار.​




    وخلاصة القول في ذلك​


    أن يعلم الإنسان نفسه البكاء من خشية الله وعند سماع الموعظة والذكر والتذكرة وعند محاسبته لنفسه أو غير ذلك،​


    والأصل في البكاء أن يكون في الوحدة ومنفردا وفي الخلوات،​


    ولكن إذا كان المرء بين الناس وغلبه البكاء فلا شيء في ذلك أبدا إذا اطمأن من نفسه الصدق والإخلاص​


    بل إن ذلك كان حال الصالحين.​






    نصائح تربوية​


    1- تهيئة البيئة التربوية الإيمانية مهمة في تربية المرء على رقة القلب​


    واستشعار الخشوع واعتياد العين على البكاء،​


    فلم يكن الصالحون يصلون إلى هذه الدرجة العالية من البكاء من خشية الله​


    لولا أن هناك بيئة إيمانية تربوا عليها وفيها أعانتهم على ذلك وتلك البيئة لها أكبر الأثر في​


    التشجيع على الأعمال الصالحة والتربي عليها،​


    والمربون الذين يهملون تهيئة تلك البيئة أو يتناسون أثرها هم مخطئون ولا شك..​




    يروي ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز بكى ذات ليلة، فبكت فاطمة زوجته،​


    فبكى أهل الدار لا يدري أولئك ما أبكى هؤلاء فلما تجلت عنهم العبرة سألوه ما أبكاك؟​


    فقال: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، فما زالوا يبكون!.​






    2- أثر القدوة مهم جدا في التربية على تلك العبادة الصالحة​


    فقد كان البكاؤون السابقون يجدون القدوة الصالحة في ذلك من معلميهم ومربيهم​


    فكانوا يتشبهون بهم إلى أن يصير العمل الصالح عندهم أساسا وأصلا،​


    أما أن يبح صوت خطيب أو معلم يعظ الناس في البكاء والناس لم يروا عليه أبدا أثرا للبكاء فلا أثر لنصحه أبدا.​






    3- يجب ألا يكون بكاء المرء على شيء من الدنيا فات أو صاحب فقد أو مصيبة حدثت​


    فذلك بكاء الدنيا وإنما مقصودنا هو بكاء الخشية من الله،​


    وهو أن يكون باعث البكاء دائما هو خشية الله سبحانه وتوقيره والتقصير في حقه تعالى​


    وكثرة ذنوب العبد وخوف العاقبة..​


    وقد كانت أسباب بكاء الصالحين السابقين تدور حول: تذكر ذنبهم وسيئاتهم وآثار ذلك،​


    أو التفكر في تقصيرهم تجاه ربهم سبحانه وما وراء ذلك، أو الخوف من عذاب الله سبحانه​


    وسوء الخاتمة أو الخوف من ألا تقبل أعمالهم الصالحة،​


    أو الخوف من الموت قبل الاستعداد له أو الشوق إلى الله سبحانه ومحبته،​


    أو خوف الفتن ورجاء الثبات على دينهم أو رجاء قبول الدعاء.​

     
  2. جاري تحميل الصفحة...